الدائرة الثانية : المسئولية عن من يرعاه من أهل وقرابات وتلاميذ ونحوه
إن الإنسان ليس مسئولا عن نفسه فحسب، بل مسؤول عن رعيته وأسرته وأهله ، وعن من ولاه أمرهم ممن هم تحته ؛ مسئولية عمل أو تربية أو توجيه، والله - عز وجل - يقول : { يا أيها الذين آمنوا قو أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } فلست مطالبا أن تحمي نفسك فقط ، وأن تقيها من النار ، بل يدخل ضمن مسئوليتك ، مسئوليتك عن أهلك، فإذا نظرنا إلى كثير من صور الخلل التي نراها في المجتمعات وننسبها إلى المجتمعات، فسنرى أنها مرتبطة بنا وبأفراد محدودين ، لكنهم أرادوا أن يشيع الأمر ، وأن لا تحدد المسئولية، من هن هؤلاء المتبرجات من النساء ؟ ومن هم هؤلاء الضائعون من الأبناء ؟، وما هي هذه الصور التي تنخر في مجتمعات المسلمين ؟، ستجد أنها كلها مرتبطة بضياع المسئولية الفردية ، هذه المرأة إما أنها بنت لأب ، أو زوجة لزوج، أو أخت لأخ، أين هذا الذي فرط في مسئوليتها ، فلم يقم بشأن القوامة على النساء ، ولا بأمر تربية الأبناء ؟، ستجد أن الخلل يكمن في مثل هذه المسئولية الفردية، ولماذا نشكو ونرى صور اجتماعية تبدو في مجتمعاتنا ، ولا نريد أن نكشف لأنفسنا أنها متعلقة بذواتنا ومسئوليتنا الفردية ؟!، إننا عندما نرى هؤلاء الأطفال في الشوارع يتلفظون ببذيء الألفاظ ، ويمارسون سيئ الأعمال، ويضيعون الكثير من الأوقات، ولا تجد بعد ذلك من يسألهم ، ولا من يقوم بأمرهم، وكأنهم لا أب لهم ولا أم ولا أسرة، وليس هناك نوع من تحمل هذه المسئولية، ثم نشكو أيضاً من فساد الأخلاق .
وكثير من أرباب الأسر يجلبون إلى بيوتهم الفساد ، ويشيعونه بين أهليهم، فيجعلون أبناءهم نهباً للشاشات الفضية، يتعلمون زائغ الأفكار ، ومنحل الأفعال، ويتلقون منها كثيراً من بذيء الأقوال، ثم بعد ذلك يشكو من آثار ذلك، بل يجلب لأبنائه ولأسرته الأفلام الماجنة، أو التمثيليات الفاضحة، ولا يرى في ذلك غضاضة، وينشر في بيته مجلات وصور كثيرة ، ثم نرى أن تفريطه في هذه المسئولية هو الذي يجر العاقبة ، ليست عليه بل على أسرته كلها، بل على المجتمع من ورائه .
لو تصورنا أن كل إنسان قام بمسئوليته في هذه الدائرة التي تولى أمرها ، وسيسأله الله عنها، وسيتعلق أفراد أسرته وأبناؤه به عند الله - عز وجل -، ويحاسبونه بين يدي الله - عز وجل - ، ويتهمونه بما قصر في حقهم من النصح والتوجيه ، والأمر والنهي، كل ذلك لو تأملنا أن الإنسان واجه به نفسه لانتهى الأمر . لو أن الإعلام فسد مهما فسد ، لو أن البث المباشر جاء بالكفر البواح ، وجاء بالفساد الذي ليس بعده فساد ، لكنه لم يجد من يستقبله ، ولا من ينظر إليه، ولا من يضيع وقته معه . فسنبقى في حماية لأنفسنا ولأبنائنا ولأسرنا.
إن سلاح المقاطعة ينبغي أن يعلم الإنسان أنه مسئول عنه ولذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - عمّق دائرة هذه المسئولية وأصَّلها وجذَّرها في المجتمع بشكل عام، عندما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما صح عنه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - :( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ) بدأ بأول صورة الإمام مسئول عن رعيته إلى آخر صورة لا يتصور فيها تحمل المسئولية وهو الخادم مسئول عن مال سيده، ثم كرر - عليه الصلاة والسلام - : ( ألا وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ) فعندما نرى كثير من صور الخلل سندرك تماماً أنها مرتبطة بتفريط الأفراد فيما أمرهم الله به وفي تضييعهم لمسئوليتهم التي أناطها الله - عز وجل - بأعناقهم، ولذلك عندما نعلم هذا الأمر ينبغي لنا أن لا نشيع الخطأ ، بل ينبغي أن نواجه به أنفسنا، لو أن كل واحد أصلح بيته وأقام أمر الله في أسرته ، لكانت كثير من هذه الصور والانحرافات تزول تلقائياً ، ولكن ضاع الشعور بهذه المسئولية وتبعتها من حياة الأمة .
الدائرة الثالثة : مسئولية المجتمع
أنت لست مسئولا عن نفسك ولا عن أسرتك فحسب، بل أنت مسئول عن المجتمع كله، وقد يبدو ذلك لأول وهلة غريباً أو بعيداً عن التصور ، ولكنه هو الأمر الذي أراده الله - سبحانه وتعالى - من المسلم المؤمن الذي يفقه سر وجوده في الحياة ، ويعرف غايته في هذه الدنيا، والله جعل شرف هذه الأمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } والله -عز وجل - جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دليل على المحبة والولاء ، المحبة انبعاث قلبي ، وميل نفسي ، والولاء نصرة عملية ، وتأييد فعلي ، كيف يكون ذلك بالأمر والنهي ؟ نحن نعلم أن الصورة التي تتبادر إلى الذهن عندما آمرك بالمعروف وأنهاك عن المنكر أني لا أحبك ، وأني أبغضك ، وقد تنقبض نفسك، وهذا فقه غير صحيح، وهو فقه غير إيماني، بل الفقه الإيماني الذي يذكره الله - عز وجل - في قوله : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } ، الولاء هو المحبة والنصرة . كيف يحققونه ؟ قال : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } ينبغي أن تعلم أن مهمة الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر نوع من الولاء للمؤمنين ، ولذلك عدم حمل مسئولية المجتمع ، وعدم تحمل مسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، هي التي يتسرب بسببها البلاء ، ويشيع بسببها الخلل ، دون أن يفطن له الناس، كيف يقع المنكر ؟ وكيف تتجذر جذوره ؟ وكيف ترسخ أركانه؟، عندما يقع المنكر فتغض الأبصار عنه، وتسكت وتخرس الألسن عن ذكره و ذكر خطأه ، وتجبن القلوب عن بيان الحق ، ويكون فيها من ينطبق عليه الوصف الذي جاء في الأثر" الساكت عن الحق شيطان أخرس " عندما يكون هناك في المجتمع شياطين خرس كثيرون، عندئذ يبقى المنكر وينتشر ، و يكون خفياً فيظهر، ويكون قليلاً فيكثر ، ثم بعد ذلك يهون في قلوب الناس ، فلا يعود لهم إنكار له حتى في القلب . ثم بعد ذلك يصبح مبرراً مقبولاً ، ثم ينقلب المنكر معروفاً والمعروف منكراً وليس ذلك أمره يتعلق بعموم الناس فحسب بل هو مبعثه من ذلك التفريط عندما لم يقم الفرد بمسئوليته .
يقول ابن كثير عند تفسير الآية التي سبقت الإشارة إليها { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } : والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر فرض واجب على الأمة كلها ، ولكنه كذلك فرض بحسبه على الإنسان المسلم ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : { من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ؛ فإن لم يستطع فبلسانه ؛ فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان } ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم ( سيكون منكم أمراء تعرفون منهم وتنكرون ) ثم قال عليه الصلاة والسلام ( فمن أنكر بيده فهو مؤمن ومن أنكر بلسانه فهو مؤمن ومن أنكر بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك حبة خردل من إيمان )، يسلب الإيمان عندما لا يكون غيرة على حرمات الله -عز وجل -، ولا انتصار لدين الله ، ولا تحرك لمنع ارتكاب المنكرات ، وتجاوز الحدود ، وممارسة المحرمات، ولذلك شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - التشبيه البليغ عندما قال : (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها ، كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم ؛ فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا )
إننا نحسن إليهم عندما ننكر عليهم ، إننا نحسن إليهم عندما نضرب على أيديهم و نضيق الخناق عليهم ، عندما نشنع على من أشاع المنكر منكره ، وعندما نناجزه بكل ما نستطيع باليد أو باللسان أو بالقلب ، ومن المسلّم به أنه ينبغي ألا يكون هناك مجال للترخص والتساهل في إنكار المنكر، لئلا يفضي إلى تشرب المنكرات والرضى بها ، وانقلابها من منكر إلى معروف ، إن مهمة الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر مهمة جماعية ، وعندما يتخلى كل إنسان عن مسئوليته، و يقول كل إنسان :هذه ليست مسئوليتي ، وينتظر الآخرين لينكروا المنكر عنه، ولينكروا المنكر بالنيابة عنه ، تشيع المنكرات وتترسخ ، ثم تصبح قوية معلنة ، وأصبح الناس يقرون بها ، وكثير منهم لا يدركون أنها منكرات ، وأصبح هناك ضعف شديد في القيام بالإنكار عليها بعد أن استفحل شرها، وبعد أن تجذرت أصولها ، ولذلك قال أبو بكر - رضي الله عنه - : أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم ) إنما حرمت الأمة إجابة الدعاء ، وإنما تمكن منها الأعداء، وإنما ذل فيها الصلحاء ، لأن كل فرد فيها لم يقم بهذه المهمة ، ولم يبغض ذلك المنكر، ولم يُبدِ السخط على مرتكبيه ، بل بش في وجوههم ، واستقبلهم وصافحهم ، بل ربما عظمهم . ووقع كثير من المسلمين فيما وقع فيه بنو إسرائيل ، كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم – عنهم عندما كان أحدهم يرى صاحبه على المنكر، فيقول يا هذا لا تفعل فإنه لا يحل ، ( إن بني إسرائيل لما وقع فيهم النقص كان الرجل فيهم يرى أخاه على الذنب فينهاه عنه فإذا كان الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وشريبه وخليطه ... ) فضرب الله قلوب بعضهم ببعض
ولذلك نبهنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على مثل هذه الأدواء ، وتلك الأمراض التي فيها ترك مهمة الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر، فمن تمام المسئولية الفردية التي يحاسب عنها الإنسان المسلم بين يدي الله - عز وجل - أن يقوم بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، و ألا يرى أن مسئوليته قاصرة على نفسه و بيته ، لأن تركه لهذه المسؤولية العامة سيصيبه في نفسه وفي أهله ، عندما تنتشر آثار تلك المنكرات وتستشري، وهذا هو واقعنا في حياتنا ، في مجتمعاتنا ، وفي مجتمعات الدول والأمم الإسلامية، إنما كان الأمر على هذه الصورة ، عندما ترك الناس هذه المسئولية المهمة في الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر، وفي حمل رسالة الإسلام في الدعوة إلى الله - سبحانه وتعالى - ، وفي استشعار الإنسان أنه مسؤول عن هذا الدين ، وعن حرمات الله - عز وجل - ، فتح الباب لكل جاهل و فاسق، ولكل عدو لينال من هذا الدين ، فيدعو إلى الفسق والفجور ، أو يكتب ما هو معدود من الزيغ والانحراف ، وأن يقع الناس في كثير من المحرمات والمخالفات ، دون أن يكون هناك صورة إيجابية في التغيير .
وعدم التغيير يفضي إلى تغير النفوس تجاه المنكر، وعدم الانفعال بالصورة الإيمانية المطلوبة، حتى يخشى أن يحق علينا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ولكن من رضي وتابع ) وقوله : ( وليس وراء ذلك حبة خردل ) ولذلك تتمة هذه المسئولية تتعلق بأن يكون الإنسان المسلم يشعر بأنه مسئول عن كل صورة ، وعن كل عمل في هذا المجتمع ، لو تصورنا أن كل إنسان بهذه الصورة ، لوجد أن مرتكب المنكر فرد أو فردين ، وعشرة وألف من الناس يقولون : لا تفعل هذا لا يجوز، وهذا حرام، وهذا يقول : لماذا فعل هذا ؟ وهذا يشتد عليه ، وهذا يلين معه، وهذا ينصحه، وهذا يزجره ، وهكذا تتوقف دائرة الفساد التي تبدأ كما تبدأ القطرة ، تنقط فوق الصخرة فإذا القطرة تفتت هذه الصخرة ، لأننا لم نحمي تلك الصخرة من أثر تلك القطرة .
قال الشاعر :
وأول الغيث قـطـر ثـم ينهمر **** ومعظم النار من مستصغر الشرر
وقال آخر :
لا تـحـقـرن صـغــيـرة **** إن الـجـبـال مـن الحصى
وهذا واقع حياتنا ، واليوم نشكو ونشكو مما يقع في المجتمع ، ولكننا قليلاً ما نتحمل ونقوم بمسؤليتنا لنغير هذا الواقع ، وننكر ونبلغ دعوة الله ، ونقول كلمة الحق ، لا نخشى في الله لومة لائم .
وقفة أخيرة
أعلم بعد هذه الجولة أن الحديث لم يكن له بريق ؛ فالبريق الأكثر لمعاناً ، والأكثر خطفاً للأبصار، والأكثر حباً للنفوس هو النقد العام ، الذي يكون موضوع حديثنا في الدرس القادم ، أعلم أن الناس يريدون أن يتحدث المتحدث عن الحكومات الفاسدة ، وعن الطغاة والجبابرة ، وعن الإعلام المنحل ، وعن التعليم المنحل ...، فيقولون : نعم هذا هو الخلل ، وهذه هي الأخطاء ، لكنهم لا يستعذبون ولا يستلذون ، عندما يقال لهم هذه المسؤولية الفردية التي تحاسب فيها عن قولك وعن نظرك وعن سمعك ، وكذلك المسئولية التي تتحملها عن أهلك وعن زوجتك وعن ابنك، ثم أنت مسؤول أيضاً عن المجتمع ، وعن جارك ، وعن ما تراه بعينك، وعن ما تسمع عنه بإذنك لا يستعذبون هذا بل يريدون أن يشفوا غيظهم ، وأن يكرروا تلك الصورة من الغيبوبة التي لا نريد أن نعيشها، ولا نريد للفرد المسلم أن يظل فيها، يريد أن يظل مغمض العينين ، لا يرى إلا الآخرين، لا يريد أن تكون أمامه المرآة التي ذكرتها وأكرر ذكرها، أعلم من هذا الحديث الذي ذكرت بعض جوانبه ، أنه ليس بالحديث الجديد ، ولو أننا تفقهنا حق الفقه ، ونظرنا بأعين قلوبنا، ومشاعر نفوسنا ، ثم دققنا الحساب في يومنا وليلتنا ، وأجرينا به الميزان في أقوالنا وأفعالنا لكنا في صورة أخرى .
فإني أؤكد مرة أخرى أن مبعث الخلل إنما هو ما يتعلق أولاً وأصلاً بهذه الدائرة الضيقة ، وما الفائدة عندما يستعذب الناس ذلك الحديث الذي يتناول الآخرين ويتناول القمم العالية التي في غالب الأحوال ليس بإمكان الإنسان مباشرة وبأساليب سريعة أن يغيرها، ماذا ستفعل عندما تقول : أن الحكم ليس بما أنزل الله - عز وجل - وأن فيه فساداً ؟ ماذا ستفعل عندما تؤكد وتقول ما يعرفه كل أحد ، وما يسمعه كل إنسان ، وما تراه كل عين من أن الإعلام فيه ما فيه من الانحراف والفسق والفجور، ولكنك أنت الملك والحاكم بأمر الله - عز وجل - فيما تملكه من الحواس، فنريد أن نقف أمام أنفسنا فيما نملك من التغيير، أنت تملك التغيير في نفسك ، وفي بيتك وفي المجتمع القريب منك ثم لا تغير، فكيف تريد أن تغير فيما وراء ذلك من الأمور الكبيرة ، والأحداث الجسيمة والخطيرة ، إنها قضية خطيرة أن يعيش الإنسان في غيبوبة عقلية ، يمارس النقد ، ويعلو صوته بالنقد اللاذع ، والكلمات الشديدة ثم يذهب بعد ذلك ليملأ بطنه بالطعام ، ويملأ عينه بالمنام ، ولا يغير في الواقع شيئاً، ولذلك ما بدأت به من حديث أحب أن أؤكد عليه ؛ وهو أن الخلل مبعثه ومنشؤه أننا لم نغير ما بأيدينا ؛ فكيف نريد أن نغير ذلك التغيير، والله - عز وجل - عندما ربط سنة التغيير في هذه الحياة قال : { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } هذا الأمر الذي تملكه ، وتلك القدرة التي في يدك ، وتلك المسؤولية التي بين لحظة وأخرى تستطيع أن تمارسها، يستطيع كل إنسان ، وكل رب أسرة أن يمارس عملاً ميدانياً تنفيذياً مباشراً ، يستطيع أن يخرج الغناء الماجن، والأفلام الداعرة ، يستطيع أن يمنع المجلات ، يستطيع أن يربي الأبناء، يستطيع أن يقيم الزوجة والبنات على أمر الله - عز وجل - ، فإذا عجز في ذلك فهو فيما وراءها أعجز، ولا نريد أن نبقى كما يريد لنا كثير من الساسة أو كثير من الأعداء والعملاء ، أن نبقى أصحاب كلام ، وأصحاب تفنن في الألفاظ اللاذعة ، والتوريات العميقة التي - كما يقولون - : تلسع لسع العقرب . من غير ظهور ولا انكشاف ، دون أن يكون هناك صورة تغييرية تأثيرية، وهذا الحديث أيضاً هو الذي ينبغي أن نذكره أولاً لماذا ؟ لننصرف نحن إلى هذا الميدان الأول ، وهو ميدان تغيير النفوس ، ماذا تصنع لتغيير هذا المجتمع ؟ ، غيّر أنت فرداً ، وليغيّر الفرد فرداً آخر، وليغيّر الأفراد أفرادا آخرين حتى يتغير مجموعة من الأفراد، وتتغير بها مجموعات من الأسر، وتتغير بها مجموعات من البيئات والمجتمعات، يصلح بها كثير من الأحوال، و اعلم أن الخير الذي يحجب عن الأمة ، والبلاء الذي ينزل بها، ليس بالضرورة دائماً أن يكون متعلقاً بالأمور والأعمال العامة ، بل هو متعلق أحياناً بالحالات الفردية كما في البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ( كنت أريت ليلة القدر فتلاحى فلان وفلان من الناس فرفعت ) . حجب هذا الخير بسبب ملاحاة اثنين من المسلمين ، ومجادلتهما وارتفاع أصواتهما؛ فإن خلل النفوس والتقصير في الواجبات الفردية هو حائل من حوائل الرحمة، وموجب من موجبات العقاب ، و هو الذي تترتب عليه الصور العامة ، فينبغي أن لا نكون ممن يحبون النقد فقط ، وأن لا نستمرئ الصورة التي قدمت بها في أول هذا الحديث ، بل ينبغي أن نكون أكثر صراحة ومواجهة وتأثيراً ، والتزاماً بالتغيير العملي في واقع هذه الدوائر، مسئوليتك الفردية ، أو مسئوليتك الأسرية ، أو مسئوليتك الاجتماعية، ولو تصورنا أن الثوب به رقع كثيرة وانشغل كل إنسان برقعة واحدة منها، مهما طال وقت رقعها وخياطتها ؛ فإن بعد لحظة من اللحظات ، سنجد أن كثير من هذه الرقع قد سترها هذا العمل ، وأذهب عوارها، وكذلك كثيرة هي الأمور التي يترتب بعضها على بعض، وكما تكونوا يولى عليكم ، وكما يكون حال الناس تكون الأجناس، وكما يقولون : من جالس جانس، وإذا شاع في النفس وفي الفرد الواحد علل وأمراض، فإن ذلك مؤذن بأن تكون فيما هو أوسع من الدوائر، ، أحببت في آخر هذا الحديث أن أؤكد هذا المعنى، لأننا سنتعرض إلى تلك الصور العامة من الخلل ، وتعرضنا لها ليس لغرض ذلك التلذذ الذي لا أحبه ولا أنصح به ، ولا أريد أن يبقى الإنسان متعلقا به ، ينفس به الإنسان عن نفسه، ويشفي به ما يجول في خاطره ، أو ما قد يقع له من هم ، وإنما أذكره لأمرين مهمين :
أولاً : الوعي والإدراك حتى إذا قمنا بحق أنفسنا نعلم العوار والخلل الذي يحيط بنا ، والذي يفرض علينا، فلا نكون مغفلين ، ولا نكون جهلاء بما يدبر لنا ، وما يحاك حولنا،
ثانياً : أن نكون على أهبة الاستعداد بمكافأة تلك الأعمال العامة ، بأعمال صالحة دعوية عامة، ليس المراد بالنقد هو شهوته ولا لذته ، ولا نوع من التعالي والافتخار به، كما قد يقع في كثير من المجتمعات، وأنا أعلم وتعلمون أن الناس يميلون إلى من يحسن النقد اللاذع ، ويتكلم بالصوت العالي ، ويشخص بكل صراحة ووضوح ، لكنهم لا يفطنون إلى ما هو متعلق بهم ، وما ينبغي أن يكون أسلوب الحديث من الناحية العملية التغيرية، وأقول كما قال الله - عز وجل - : { أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم } والبداية لرأب الصدع، ولتدارك ذلك الخلل العريض هو أن تبدأ من قيامنا بحق أنفسنا، فالله أسأل أن يبصرنا بعيوبنا، وأن يلزمنا قبول النصح والإرشاد ، وأن يقينا نزغات أنفسنا وهواها وشهواتها، وأن يجعلنا ممن يقومون بالأمر حق القيام به .